السبت، ٢٣ ديسمبر ٢٠٠٦

الشعلة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى



الشــــعـلة

قصة محمود البدوى


تقع حانة منيرفا فى الشارع الرئيسى فى حى الملاهى والحانات .. ولكنها لم تكن من طرازها .. كانت مستطيلة وهادئة ، ولها ساحة رحبة ، وشرفة تطل على الطريق .

وكان أكثر المترددين عليها من الأشخاص الذين يتناولون وجبات الطعام فى الخارج .. فقد كانت مشهورة بالكفتة الرومانى والمكرونة الإيطالى ، وأصناف المشويات الشهية .. وكان صاحبها يديرها برأس الفنان وعقله .

وكنت أذهب إليها كل مساء لأتعشى وأشرب القهوة الجيدة وأكتب تحت ضوء مصباحها وأقرأ .. وأشاهد الحياة تجرى أمامى من شرفتها الواسعة ..

وكنت مذ قدمت من الريف أحس بالفراغ وأشعر بالنقص .. لأنى أصبحت بصورة لاتقبل الشك أعيش على هامش الحياة .. وأكتفى بالعمل الروتينى الممل فى الصباح .. دون أن أحرك مشاعرى أو أن أتقدم خطوة ..

وبعد الحياة الأصيلة وسط الفلاحين فى عزبهم وكفورهم .. وبعد مشاركتهم فى الطعام والشراب .. والعمل الشاق فى الأرض .. وبعد مخالطة الأخيار والأشرار منهم والغوص فى الأعماق .. جئت إلى هنا لأنظر إلى الحياة فى المدينة من وراء زجاج ..

أصبحت لا أرضى عن هذه الحياة ..

وكنت بحكم طباعى الريفية المتأصلة أنفر من أهل المدن ولا أستطيب صحبتهم .. ثم أخذت أحاول أن أرفع هذا الحاجز .. بالتدريج ..

وكما يحدث لكل إنسان يتردد على مكان معين .. فإنى قد وجدت نفسى بعد أسبوع أعرف كل الوجوه التى تتردد على المشرب .

كنت أجد على " البار " رجلا ضخما عظيم الكرش .. كان السيد " عبد الغفار " يدخل فى الساعة العاشرة تماما .. ويجلس إلى الرخامة العالية .. وأمامه كؤوس الشراب .. ولم يكن يأكل أبدا .. كان يشرب فقط .. ويشرب بشراهة .. يشرب إلى درجة تفوق كل مدارك الاحصاء .. خيل إلىّ أنه يشرب فى الليلة الواحدة .. " دنا " ممتلىء الحافة .. ولم يكن معه رفاق .. كان يأتى ليسكر وحده ..

وقبل منتصف الليل بقليل كان يحصى الموجودين بعينيه ويطلب لهم الشراب .. ولما يجدنى لا أشرب يقول للساقى :
ـ حسن لماذا نسيت السيد ..؟
وتلفت إليه أقول شاكرا :
ـ أرجو اعفائى .. اننى لا أشرب ..

ويحدق فى وجهى بقوة :
ـ ولماذا تجلس هنا .. اذن ..؟
ـ لأن المكان جميل .. ويريح أعصابى ..
ـ انك كالذى يصلى طول النهار .. ويذهب فى الليل إلى وجه البركة .. !

وأعجبت النكتة بعض الحاضرين فضحكوا وضحكت معهم ..
وقال باصرار :
ـ لابد أن تشرب شيئا .. ولو زجاجة صودا ..

وتحت الحاحه الشديد طلبت من حسن " شوبا " من البيرة .. وأبقيته أمامى ممتلئا إلى النصف .. حتى يعفينى من غيره ..

وبعد نصف الليل يطلب عبد الغفار من حسن أن يحضر له عربة يركبها وهو لايكاد يتماسك .. ويضع فى يد حسن كل ما بقى معه من فكة ..

وبعد ربع ساعة من خروجه أحمل كتبى .. ويأخذ حسن فى اغلاق الأبواب .. وكنت أتخذ طريقى إلى بيتى فى الحلمية الجديدة ماشيا على الأقدام .. وكانت تلك الجولة الليلية تطيب لى لأنها رياضة عضلية للجسم المحبوس بين أربعة جدران .. ولأنى كنت أستطيع أن أتبين جمال القاهرة بعد أن تنقطع الرجل .. تبدو العمارات والشوارع تحت الأضواء الساكنة أمتع ما تقع عليه العين .

وحدث وأنا أمضى متمهلا وكنت قد تخطيت ميدان الأزهار .. وانحرفت فى شارع الفلكى .. أن رأيت رجلا يمشى أمامى فى تثاقل .. وكان شكله مألوفا لدى .. ولما اقتربت منه وجدته " عبد الغفار " .

وكان قد استفاق من نصف سكره .. وقال لى أنه يسكن فى عمارة للأوقاف فى هذه المنطقة وأنه خلفها وراءه .. لأنه لم يشعر بالنوم .. بعد أن نزل من العربة .. طارت الخمر من رأسه .. فرأى أن يتجول لأنه يكره البيوت .. وشعرت بثقل الوحدة على نفسه المسكينة ..

وقال لى أنه مقطوع من شجرة ، وأنه بعد سنوات من الكفاح فى سبيل العيش وجد نفسه يعيش بغير أمل أو غاية مرجوة .. وقد جره اليأس إلى السكر .. وهو الآن يشرب ليموت .. لأنه لم يعد يستعذب الحياة .

ولم أشأ أن أسأله لماذا لم يتزوج ولماذا يعيش فى جفاف عيشة مظلمة .

لأن حياتى كانت جافة ومظلمة مثله ، ولأنى كنت لا أحب أن أسمع المواعظ ولا أحب أن ألقيها على الناس .. وتركت الرجل قبل أن أبلغ محطة حلوان .

***
وفى خلال هذا الركود والملل والفراغ الذى كنا نحس به ونعيش فيه .. اشتعلت نيران الحرب فجأة .. وتطورت الأحوال بسرعة عجيبة وأخذ " روميل " يزحف فى الصحراء متجها إلى الإسكندرية .. وامتلأت مدينة القاهرة بجيوش الإنجليز وحلفائهم وأخذوا يعربدون ويسكرون فى حاناتها ..

ولكن الخواجه " إيناس " منعهم من دخول " منيرفا " .. كان يود أن يحتفظ بعملائه القلائل .. وبهدوء ونظافة المحل .

وجعلنى هذا أكثر حبا للمكان فلم أنقطع عنه أبدا ..

وفى الوقت الذى كان فيه جنود الحلفاء السكارى .. يحطمون الحانات والملاهى .. ويشتبكون فى عراك دموى مع السكان الآمنين فى قلب العاصمة .. كنا نحن الجالسين فى " منيرفا " نشعر بالهدوء المطلق .. وكانت كل القرائن تدل على أن هذه المجزرة البشرية ستنتهى بسحق الإنجليز واندحارهم .. كانوا يولون الدبر .. فى كل ميدان .

ولهذا تحمل الناس الظلام والغارات .. والجوع .. لأن الفرحة الكبرى لتحرير الوطن والتخلص من شرهم .. أتية لا ريب فيها ..

***

ولم تكن حانة " منيرفا " بالمكان الذى يجلس فيه النساء . ولكن يحدث فى بعض الحالات أن تأتى سيدة مع رفقة لها .. أو تجلس وحيدة لتتعشى أو تشم النسيم .

وكنا نحس بوجودنا .. ونشعر بالحيوية كلما دخلت فتاة .. وكان صحن الحانة متسعا وعلى الجانب الأيمن منصة .. كأنها خشبة مسرح قديم .. كانت ترتفع عن أرض الحانة بثلاث درجات ..

وفى هذا المكان المرتفع كنت أجلس .. وأشعر بالراحة .

***

وسمعت ضحكات " عبد الغفار " ذات ليلة وهو يتجه إلى الباب ، وكان خارجا قبل ميعاده ..
وقال لحسن :
ـ بلاش عربية الليلة عاوز أتمشى .
ـ وكانت الليلة شديدة الحرارة ، والساعة لاتعدو العاشرة ، فرأيت أن أذهب إلى سينما صيفية فى شارع عماد الدين .

وخرجت بعد الساعة الواحدة صباحا .. وسرت فى شارع محمد فريد .. وقبل أن أعبر شارع الساحة .. رأيت نفرا من الناس متجمعين على عتبة بيت فى الشارع .. ويتحدثون بصوت عال ، فنظرت فرأيتهم يحيطون برجل جالس على العتبة ، وهو فى حالة اعياء تام ..

وعرفت الرجل فقد كان " عبد الغفار " ..
وقبل أن أقترب منه .. سمعت من يقول :
ـ الأفندى مات ..
فارتعشت ..
ـ مات من السكر ..
ـ وفين العسكرى ..
ـ جاى ..
ـ طيب يا ناس غطوه بحاجة ..
ـ حرام ..

وقلت للناس انى أعرف الرجل وأعرف بيته .. وبحثنا عن تاكسى . ومر تاكسى نزل منه حسن ، وكان بعض الناس قد أخبره بما حدث ، فجاء على عجل .

وحمل الرجل وذهب به سريعا ..

وعلمت فى مساء اليوم التالى أنه تكفل بمصاريف الدفن .. ولما أخرجت له مبلغا من جيبى لأعاونه فى هذه المصاريف ..

قال لى وهو يبتسم :
ـ مش ممكن .. أنت فاكر .. أنا دفعت له حاجة من جيبى دى فلوسه ..
وهكذا بدا مثالا نادرا فى الوفاء ..
وحزنا على موت الرجل .. فقد كان يشيع البهجة فى المكان ..

***

وفى الساعة التاسعة من مساء اليوم التالى .. دخلت سيدة شابة الحانة .. وجلست إلى مائدة صغيرة .. وكانت جميلة وحسنها يهز المشاعر .. وشعرت بالأسى لأنها اختارت هذا المكان لتجلس فيه وهو ليس أكثر من " بار " .
وشعرت بالألم لأن شكلها لا يدل على انها تتردد على هذه الأمكنـة العـامة .

وطلبت طبقا من المكرونة وأخذت تأكل ..

وبعد أن أكلت وضعت الشوكة والسكينة فى الصحن .. ونظرت إلىّ قليلا فتـأكـدت من هذه النظرة انها مصرية.

وكانت جميلة .. وجمالها يصرخ .. فتألمت لأنى رأيت هذا الجمال يخرج فى الليل وحده وسط الحرب والظلام ..

ولكنى اسـترحت لأن المـكان لايدخـله عساكر من الإنجليز ..

ولما أعطتنى وجهها .. عدت إلى الكتاب .. وفجـأة برق أمـام نظرى شىء من الذهب .. وسمعت صوتا خشنا يقول بالإنجليزية :
ـ تشترى هذه .. ؟

ورفعت وجهى عن اليد التى كانت ممسكة بالساعة إلى صاحبها .. فرأيت عملاقا ضخما من عساكر الإنجليز ، ولا أدرى كيف دخل من الباب ، ينحنى علىّ وهو مخمور وحسبنى لم أسمعه فى المرة الأولى فعاد يقول :
ـ تشترى هذه .. ؟
ـ نو..

قلتها سريعا ودون تفكير فى العواقب .. درت برأسى فى المكان فوجدت جسمه الضخم قد سد علىّ جميع المنافذ .. ووجدت جميع من فى الحانة ينظرون إلينا وكأن على رؤوسهم الطير ..

وكان هو أقرب شىء إلى الممر .. فلم يستطع إنسان أن يتحرك من مكانه .. ونظرت فوجدت بجانبه طبنجة موضوعة فى جراب .. وخنجرا كبيرا مما تراه مع البوليس الحربى ..

ولمحت وهو يعيد الساعة إلى جيبه .. ثلاثة أشرطة على ساعده .. وشيئا فى حجـم القرش كالشـارة . . وقال وهو ينحنى بكليته على المنضدة :
ـ اعطنى .. شلنا ..
ـ ليس معى نقود ..

قلتها بنفس اللهجة السابقة ونفس التوكيد .. وأحسست بعدها بهزة .. ولم تكن منه فهو لم يتحرك من مكانه .. وإنما كانت منى .. ارتجفت .. خرجت منى الكلمة كالقذيفة .. وندمت عليها .. وأسفت على حمـاقتى .. فقد كنت أستطيع أن أصرفه وأخلص حياتى بقروش قليلة وأخلص من كل المتاعب ..

ولكن الإنسـان يرث بعض الطباع فى مثل هذه المواقف ويتصرف وهو واقع تحت تاثيرها .. فأنا لم أقبل التحدى .. ولا الاستكانة .. رفضتهما وإن كنت أعرف اننى سأموت حتما ..

وفكرت وأنا أرفع رأسى فى الشىء الذى سيضربنى به هذا الوحش .. ثم رأيت أنه لن يستعمل شيئا أكثر من أن يرفعنى بين يديه ويلقينى على الأرض .. فأنا لا أتحمل أكثر من هذه الضربة ..

وقـدرت قوته .. وكان يستطيع بسهولة أن يصرع ثورا .. وأن يطوق بذراعيه جميع الموجودين فى المشرب حتى يكتم انفاسهم .. وتحرك إلى الخلف قليلا .. ثم تقدم وكانت عيناه فى لون الدم ..

وفى تلك اللحظـة لا أدرى لم نظرت إلى الفتـاة التى كانت تأكل فرأيتها تشعل سيجارة .. وتنظر إلينا فى ابتسام .

وفى غفلة من الرجل وهو منشغل بى .. تسلل معظم الذين كانوا فى داخل البار .. وبقيت وحـدى أواجـه العاصفة .. وعندما يدرك الإنسان اليأس ويعرف أنه ميت يتصلب جسمه ويفقد الإحساس بما حوله .

وهذا ما حدث لى .. وأنا أراه يضع يده على الخنجر .. وانتظرت الضربة .. فاغلقت عينى .. ولما فتحتهما وجدت وجها أعرفه يقف بين رأسينا ..

وقالت الفتاة .. وهى تربت على ذراعيه .. وتنظر إليه فى رقة :
ـ تعال .. يا جونى .. سأعطيك كل شىء ..
وكأنما صبت عليه ماء باردا .. فتركنى وتحول إليها ..

ووقفت معه على المنصة تضاحكه .. ثم مشت به إلى حافة الدرج .. ودفعته وهو ينـزل الدرجات بكل قوتها فانزلق وهوى بكل جسمه على البلاط .

وفى تلك اللحظه رأيت فى يد حسن قطعة من الحديد ، ضرب بها "كوبس " النور .. فغرقنا فى الظلام .

***

وفى اليوم التالى وجدت حانة منيرفا .. مغلقه .. والدكاكين التى بجوارها محطمة ولم أسمع لمن كان فيها خـبرا .

وحزنت على حسن .. وعلى الفتاة فقد كانت الشعلة التى أضاءت ظلمـات حياتى .. وظلت الجذوة المشتعلة فى قلبى .. لم تنطفىء نارها ابدا .. وكنت أراها بوجهها الجميل وهى جالسة هنـاك فى وداعة .. ومن عينيها يطل الحنان والابتسام ..

***

ومرت سنوات .. والجذوة لم تتحول إلى رماد ..
وذات ليلة كنت أزور صديقا لى فى شبرا .. لأول مرة .. ولم أعرف موقع الشارع فوقفت حائرا قبل الدوران .. ثم رأيت نورا فى دكان سجاير صغير فتقدمت إليه .. ولما اقتربت من الدكان .. رأيت رجلا داخله .. وخيل إلىّ أنى أعرفه .. ولما دققت فيه النظر .. صدقت فراسـتى وتأكـدت أنه حسن "سـاقى" منـيرفا وسألته عن شـارع الشبراوى ..
فنظر إلىّ ولم يعرفنى .. ثم خرج من الدكان إلى الرصيف فرأيته يمشى على عكاز .

ونقر على نافذة أرضية .. ثم سأل :
ـ امينة .. فيه شارع هنا اسمه الشبراوى .. ؟
وفتحت النافذة وأطل وجه ..
ـ ايوه .. تانى شارع بعد دكان عبداللطيف .. على طول .

ومدت صاحبة الصوت رأسها .. فرأتنى .

وعرفت أمينة فى الحال .. فإن شيئا لم يتغـير من وجهها .. احتفظ وجهها بجماله الآسر وكل ما فيه من فتنة .. وظل صوتها كما سمعته فى تلك الليلة .

ونظرت إلى طويلا ولما عرفتـنى .. ابتسمت ثم غابت الابتسـامة .. طواها أسى أخرس .

فقد رأت الأهوال فى رأسى مشتعلة .. وارتجفت كما ترتجف أنثى .. وهى ترى الشباب يذهب من وجه الرجل .. الذى تعرضت للموت من أجله ، وما هو أشنع من الموت ..

وبقيت أمامها لحظات صامتا أخرس .. ورأيت الدموع تتحرك فى عينيها .. ثم سمعت بكاء طفل فى الداخل .. فتركت النافذة ودخلت .

وكنت وأنا اخطو فى الشارع الطويل الخافت الضوء أود أن أسأل الرجل .. هل فقد ساقه فى تلك الليلة المشئومة .. أم بسبب الغارات .. واسأله عن أمينة وأعرفه بنفسى . ولكنى وجدت السؤال يشوه جمال المسألة ..

وكنت قبل كل شىء أود أن تظل الشعلة التى اشعلتها هذه المرأة كما هى .. مشتعلة ..
=================================
نشرت بمجلة الرسالة الجديدة 1/9/1957 وأعيد نشرها بمجموعة محمود البدوى " الأعرج فى الميناء" 1958
=================================

الرجل الصامت ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى






الرجل الصامت
قصة محمود البدوى

أحمد إبراهيم ولم يكن هذا اسمه المدون فى شهادة الميلاد .. ولكنه كان اسمه الذى اشتهر به وأصبح لايسمع سواه ولا ينادى بغيره .. حتى نسى على توالى الأيام اسمه الحقيقى ..

وعندما التقيت به لأول مرة استرعى انتباهى بهندامه الغريب وملامح وجهه الفريدة ، كان رأسه كبيرا .. وجبهته عريضة .. وأهدابه غزيرة كثة وعيناه ضيقتين تلتمعان بحدة .. وأنفه قصيرا .. وشعر رأسه أسود خشنا كفروة الخروف ..

وكان يعمل طاهيا فى بيت ضابط النقطة وفى بيتى ، وفى بيوت كثيرة فى الحى .. وما كنا جميعا ندرى كيف تتاح له كل هذه المقدرة ..

ولكنه فى الواقع لم يكن طاهيا بالمعنى الدقيق لصاحب هذه الصفة .. بل كان لايعرف إلا صنفا واحدا من الطعام يطهوه فى كل البيوت .. وكنت أجد الكفاية فى أن يجىء إلى شقتى يومين فى الأسبوع يطهو فيهما وينظف البيت ..

وأحسب ضابط النقطة كان يفعل مثلى .. ويترك ما بقى من الخدمات للعساكر ..

ولا أدرى كيف وقع عليه الضابط .. أما أنا فقد وقعت عليه فى عصر يوم وأنا راجع من الجامعة ونازل من الترام فى دوران فم الخليج ..

وكان معى كراسة المحاضرات فى يد .. وفى يدى الثانية بطيخة اشتريتها بقرشين من الميدان .. فأشفق على منظرى وحمل عنى البطيخة إلى البيت ، ومن وقتها لازمنى ..

وكان يرتدى بدلة عسكرى كاملة .. السترة سترة ضابط والبنطلون بنطلون رجل من رجال السوارى .. ضيق محبوك .. والسترة واسعة مهلهلة .. مفككة الأزرار منفوخة الجيوب ..

فكان منظره مضحكا لكل من يشاهده ، ولكن ما من شخص كان يجرؤ على الضحك عليه ، لأنه كان مرهوبا من الحى كله لمجرد التصاقه بالنقطة ولأنه يخدم الضابط ..

ولم يكن الضابط الشاب مكروها ، بل كان محبوبا طيب المعشر .. ولم يكن من طباعه أن يحتجز أحدا من الناس فى النقطة إلا فى حالات الضرورة التى يتطلبـها الموقف .. بل كان يتصرف بالحسنى والمرونة والكياسة فى غالبية الحالات العارضة ..

وظل هذا الطبـع الخـير يلازمه فى أثنـاء المظاهرات التى كانت كثيرة فى هذه الحقبة من حياتنا .. والتى كانـت تأتى حشوده من الجيزة ، مركز تجمع الطلبة ، وتعبر كوبرى عباس .. إلى كوبرى الملك الصالح .. وعنـد دوران فم الخليج ، كان الضابط يفرقها بالكلمة الطيبة والجلد على مغالبة الموقف .. قبل أن تصـل إلى مدرسة الطب فى شارع القصر العينى .. وكان دائما يبعد الكونستبلات الإنجليز عن الاحتكاك بالطلبة وإثارتهم .. ويتصرف بلباقة .. وبجانبه يقف إبراهيم فى بدلته العسكرية ، طويلا صامتا ، كأنه الجنرال الذى يكتفى بإصدار الأوامر مرة واحدة .. ثم يطبق بعدها فمه إلى نهاية الجولة .. وما أظن إلا أن حدة الطلبة كانت تتكسر على طلعته وزيه الغريب .. وتخبو مرة واحدة .. وفى غمضة عين تصبح النار المشتعلة رمادا وهشيما ..

وكان إبراهيم يستريح من عناء كل الأعمال بعد الغروب ، ويتبختر مزهوا فى المنطقة بين كوبرى الملك الصالح ودوران فم الخليج .. ويفرض أتاوته على المعدية .. وعلى الباعة الجائلين ..

وإذا أرخى الظلام رواقه ، أصبح شاطىء الترعة الذى يخيم عليه الشجر الضخم الملتف رهيب الوحشة فى الليل .. شديد الظلام مرعبا .. حتى لاترى موضع قدميك بعد ثلاثة أقدام .. لأن هذه المنطقة لاتضاء بالمصابيح اطلاقا ، كما لاتوجد حوانيت فى الواجهة المقابلة تخفف من وطأة الظلام .. بل كانت هذه الرقعة الكثيفة الأشجار خالية تماما من الدكاكين .. وحتى المنازل المتناثرة هنا وهناك كانت صامتة رمادية شهباء خرساء .. تضفى ظلا كئيبا موحشا على الشارع كله ..

ويحدث أن يصدم الترام ، أو تدهس سيارة عابر سبيل وتلقيه تحت الشجر ، أو يطعن شخص غريمه فى هذه الظلمة الرهيبة ..

وعندما يبلغ الحادث للنقطة يكون ابراهيم فى خطف البرق قد نفض جيوب المصاب .. قبل أن يأتى المحقق أو تصل عربة الاسعاف ..

وكان يلتذ من هذه العملية حتى وإن لم يجد فى الجيوب غير بضعة قروش قليلة .. ويعد هذا العمل مغامراته الكبرى .. ويترقب الحوادث ويشتمها من بعيد بلذة عارمة ..

وكان يحكى لى كل ما يجرى ويعترف بعملية السطو الليلية هذه وهو هادىء الملامح تماما .. كأنه يقوم بعمل مشروع ..

ولما أبديت له سخطى ونفورى من فعله .. قال فى سخرية :
ـ إذا لم أسرقهم أنا سيسرقهم غيرى .. قبل أن يصلوا إلى المستشفى .. أو إلى المشرحة فى زينهم .. هل تتصور أنه يمكن أن توجد أمانة فى هذا الجو ..؟
ـ لماذا لا ..؟
ـ ان هذا مستحيل تماما .. الحياة غير الذى تقرؤه فى الكتب يا عبد الحميد أفندى .. عندما تنام عين الإنسان يتحرك الشيطان .. ويتحرك بكل ضراوة .. وسم هذه خسة .. ولكنى أفعلها .. وسأظل أفعلها ..

وقد عجبت لهذه الأفكار السوداء فى رأس إبراهيم .. وقدرت أن طفولته كانت قاسية ومرة .. حتى جعلته هكذا ..

ورغم هذه النزوة التى كان يندفع إليها فى الليل ، وهو مسلوب الإرادة تماما .. فإنه كان فى منتهى الأمانة فى كل ما يتسوقه لى من أشياء .. ولا يزيد مليما واحدا ، بل كان يتحمل المشقة ويذهب إلى حي السيدة .. ليشترى لى الأجود والأرخص ويوفر بضعة قروش فى كل مرة ..

ومن البيوت التى كان يخدمها .. شقة فى الدور الرابع فى نفس العمارة التى كنت أقيم فيها .. وكانت تسكنها سيدة ومعها بناتها الثلاث وكن جميعا يلبسن السواد فى الليل والنهار .. ووجوههن شاحبة حزينة ..

وكانت هذه الأسرة ضحية لرجل اشتعلت فى رأسه الوطنية ـ منذ الصبا ــ وأخذ يكافح الاستعمار الإنجليزى بكل الوسائل .. وحدث أن وقعت حادثة اغتيال لبعض كبار الإنجليز فى مدينة القاهرة فاتهم فيها .. وأعدم .. ونسى الناس الأرملة وبناتها نسوهن تماما .. وعشن بعد عائلهم فى فقر وحزن ..

وعرفت من إبراهيم أنهن يعشن من دخل ضئيل ولولا هذا لمتن من الجوع .. وكنت كلما شاهدتهن أشعر بشىء ثقيل يحط على قلبى ويكاد يسحقه .. ويضاعف من ألمى أننى كطالب فقير لا أستطيع أن أفعل لهن شيئا..

وكنت أتساءل كيف نسيهم الناس ونسيتهم الأحزاب .. ثم أدركت السبب .. كان الخوف من بطش الإنجليز وإرهابهم يبعد الناس عنهم .. لقد أمات الإرهاب كل مروءة وشهامة فى طباع البشر .. وقتل الخوف كل خير فى الإنسان ..

وإلى جانب هذه الأسرة التاعسة التى نسيها الناس .. يعيش فى القاهرة نفسها المهرجون والخونة والمتجرون فى الوطنية .. يعيشون فى القصور ويكنزون الأموال ..

وكان إبراهيم الذى لا يعبأ بالطعام ، ولا بالشراب ، ينام كيفما اتفق فى مدخل العمارة .. أو على البسطة التى أمام شقة الأرملة وبناتها .. يفرش حصيرا ويتمدد .. وكثيرا ما كانت تنتابه حالة اكتئاب حادة تجعلنى فى حيرة من أمره .. وفى أثناء هذه الحالة يكون طعامه رديئا .. وطباعه متغيرة ..

وكان يتقاضى منى جنيها واحدا فى الشهر نظير خدمته .. ولا يطلبه إلا إذا أعطيته له .. فلم يكن فى حاجة لنقود لطعامه ، أو ملابسه لأنه يأكل فى البيوت التى يشتغل فيها ويرتدى الملابس القديمة .. ويوما طلب منى هذا الجنيه وهو يبدى أسفه ، وعلى وجهه الخجل ، فأعطيته له ولم أسأله عن السبب .. فتناوله وخرج فى الحال ..

وقد جعلنى هذا أراقبه من النافذة .. ورأيته بعد ساعة يدور فى الميدان ، وبجواره طبيب الحى ممسكا بحقيبته ..
ثم وجدته يصعد به إلى شقة الأرملة ..

وحدث ما جعله يدخل قفص النقطة .. وهو الذى كان يتفرج على المحجوزين فيه ويسخر منهم .. ذلك أنه شاهد شابا خليعا يلاحق كبرى بنات الأرملة .. تحت الشجر .. ويمسكها من معصمها فى غبش الظلمة .. فصرخت الفتاة وكان إبراهيم يعس كعادته فى هذه الجهة .. فجرى على صوتها وأمسك بتلابيب الشاب .. وكان مع هذا نصل حاد أراد أن يطعن به إبراهيم .. فانتزعه منه إبراهيم ، وهو فى ثورة غضبه على الفتاة ، وطعنه بقوة وسقط الشاب ..

وتجمع الناس فى الظلمة .. وقد روعهم المشهد الدامى .. ولكن إبراهيم تقدم وحده دون أن يمسك به إنسان .. ودخل النقطة ..

وروت الأرملة كل شىء عنه بعد ذلك .. وكيف أنه كان يعطيهم كل ما كان معه من نقود ، ويحرم نفسه من كل الأشياء ..

وأدركت أنا ، بعد اعترافها هذا ، أنه كان يعطيهم حتى النقود التى كان يجمعها من جيوب المصابين فى الحوادث ..

===============================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة عدد مارس 1976 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " عودة الابن الضال " ـ مكتبة مصر 2001
================================